قصيدة النثر، حاضرة باستمرار في تفكير خزعل الماجدي وفي نظرته المستقبلية إلى تطور الشعر العربي، وهو لا يتردد من طرحها في كلّ مناسبة ثقافية، على أنها النموذج الذي يدفع هذا الشعر باتجاه تحقيق الاندماج الكلي بواقع الإنسان وبواقع الثقافة. وبغض النظر عن كونها ( قصيدة نثر) أو ( نصاً مفتوحاً)، فهي عنده تملك من المزايا الجمالية ما يؤهلها للعب هذا الدور في حياة الأدب العراقي المعاصر. وعندئذ ليس من المستغرب أنْ يرسم صورة كاريكاتورية لعملية التحول من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، فيقول: لم تتحقق ثورة الحقيقة إلا عندما ترك الشعر أسطوله الموسيقي الجبار ومعداته البلاغية الإطنابية ونزل يخوض داخل النثر يأخذ منه الإيقاعات الصغيرة التي لا تنتهي والمواضيع البسيطة التي تخفي داخل أمواجها كسر المطلق وتوترات الوجود. وزبدة ما حققته قصيدة النثر بحسب زعم خزعل الماجدي، هو أنها هجرت ( الأسطول الموسيقي الجبار) و( المعدات البلاغية)، باتجاه ( الإيقاعات الصغيرة والمواضيع البسيطة). غير أنّ الناظر في تاريخ هذا النموذج الشعري بالعراق على وجه الخصوص؛ أعني الشعر صاحب ( الأسطول الموسيقي الجبار، والمعدّات البلاغية) مقارنة بالنموذج الآخر المتمثل بقصيدة النثر أو النصّ المفتوح، سوف ينتهي إلى نتيجة مفادها أنّ النموذج الأول كان على صلة بواقع الثقافة العراقية وبمشكلاتها الأساسية، وكذلك على صلة بالصراع الوجودي للإنسان العراقي وقدّم صورة عن طبيعة المجتمع العراقي وتحولاته الجوهرية على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة والأعراف. وصارت القصائد والنصوص التي كتبها الزهاوي والرصافي وعلي الشرقي والشبيبي والجواهري وحسين مردان ونازك الملائكة والسياب والبياتي ومحمود البريكان وبلند الحيدري وحسب الشيخ جعفر، عصب التحولات التي طرأت على المجتمع العراقي، وخزانة لـ ( انتيكات فكرية) تكشف عن الرؤية التي اشترك فيها هذا المجتمع في الصراع التاريخي المحتدم الذي طبع تاريخ العراق الحديث. وعلى الرغم من أنني أنحاز تماماً إلى نموذج قصيدة النثر أو النصّ المفتوح إلا أنّ معظم النماذج العراقية مقارنة بالنماذج العربية لا تحوز على الشروط التي تجعلها وثيقة فاعلة في تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة. وظلت قصيدة النثر منذ السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، غير قادرة على إنتاج نماذج شعرية شبيهة بـ ( النهر والموت، والمومس العمياء، وحفار القبور، ومجنون عائشة، وعين الشمس، وقمر شيراز، وحارس الفنار، والتصحّر، وقارة سابعة، والرباعية الأولى، والرباعية الثانية، والطائر الخشبي، والأخضر بن يوسف، وشجر إيثاكا، ونشيد اوروك...). ويعلم القارئ أنّ هذه النصوص، تنطوي على مجموعة من الإشكاليات الثقافية والتاريخية، النابعة من صميم الصراع الاجتماعي الانطولوجي في مرحلة زمنية معينة، حاضرة بقوة هي والمكان في هذه النصوص التي لا تمحى من ذاكرة القارئ بسهولة. إنّ الشاعر العراقي في هذه العقود الثلاثة، يتعامل مع جمهور القراء على أنهم كائنات غير مقيدة بقيود تاريخية أو جغرافية، إنما كائنات خرافية بوسعها أنْ تتحوّل من طور إلى طور آخر بالسرعة التي تسمح لهم أنْ يفهموا هذه التشكلات الشعرية الغرائبية، ويتعامل مع الموروث الثقافي والشعري على أساس جملة من المفاهيم المحرّفة عن دلالاتها الأصلية، أو المفهومة بشكل مغلوط. وفي جلسة خاصة جمعتني بأدونيس والنحاتة المعروفة منى السعودي، تساءل عن أسباب ( عقم القصيدة العراقية المكتوبة في هذه العقود الثلاثة)، وكان تساؤله تساؤل المنتظر الشغوف بآخر فتوحات الشعرية العراقية التي اعتاد الشعراء العرب أنْ يكونوا تلامذتها الأوفياء. إنّ قيمة رأي هذا الشاعر الكبير، تأتي من خلال قراءته الدقيقة للمشهد الشعري بالعراق في هذه العقود الثلاثة. لقد كان مفهوم عقم القصيدة الذي تحدثنا فيه، يتجه مباشرة إلى مسألة أساسية هي أنّ هذه القصيدة تحيا خارج التاريخ العراقي الساخن، مثلما تحيا خارج التاريخ الثقافي السائد لا رغبة في تغييره إنما رغبة في الهرب من إشكالياته الجوهرية وأسئلته الوجودية. إنّ الشعر العراقي يمرّ بأزمة معرفية حقيقية، لا أزمة جمالية، فالشعر عبر تاريخه الطويل لم يمر بأزمة جمالية خالصة، إنما الأزمة الحقيقية هي أزمة وعي بالكيفيات التي يصبح فيها الشعر يسكن في العصب المهتاج للواقع التاريخي الملبّد بغيوم التغيير، وبسبب ذلك كان الشعر في العصور العربية المظلمة يمارس نشاطاً جمالياً متميّزاً لكنه كان بعيداً عن تصوير الإشكالية التاريخية، وكان يمسّ ظهر الواقع مسّاً مبتهجاً بالفتوحات الجمالية المتمثلة بزخارف بلاغية فاقعة الألوان، ومن هنا كان شعر هذه الحقبة يحيا خارج اللحظة التاريخية.
ناظم عودة GMT 8:15:00 2004 الخميس 30 سبتمبر
Comments